نبش القبور.. والتاريخ والجغرافيا

لم تُسعف الحماقة أردوغان في إعادة خلط الأوراق التي كان يجزم أنها حاصلة لا محالة، وسط هذه الفوضى التي تعمّ العلاقات الدولية، ومعايير تعاطيها مع القانون الدولي، بقدر ما أعادت اصطفافها سياسياً وعملياتياً لتعيد تموضع الزوايا داخل المشهد بتراتبية حضورها وإلحاحها، وهي تقدم صورة واضحة عن التداعيات المرافقة كما تفسر الكثير من الارتدادات التي سبقتها، حين بات العدوان يميط اللثام عن الأوراق المتساقطة بالجملة.‏

فالحسابات والمعادلات الناشئة على وقع ما حصل تستفيض في شرح الغموض، وربما تجيب على الكثير من الأسئلة المؤجلة في سياق الدور والمهمة التركية على وقع الطاولات المقلوبة على امتداد المنطقة، والتي اقتضت في حدها الأدنى إعادة تدوير المعايير والمفاهيم لتتوافق مع الحالة العائمة لكثير من الوقائع في سياقها التاريخي وربما الجغرافي، بعد أن شهدت تدحرجها طويلاً من الناحية السياسية.‏

الفارق اليوم.. لم يعد فقط عدة إضافات من حالات العدوان الموصوف دفعة واحدة مارستها حكومة أردوغان بهذا التبجح، بل تحمل تصحيحاً في وقائع التاريخ والجغرافيا، وإن كانت قد تجنّت على الواقع بصورة لا سابقة لها، فإنها في طورها الحالي ترسم ملامح مرحلة جديدة من التعاطي السياسي والقانوني والأخلاقي أيضاً، التي طالما رسمت في نهاية المطاف مقاطع مؤجلة من الحسم فيها طوال عقود مضت.‏

ربما كان من الصعب الجزم في التداعيات المرافقة سياسياً وعسكرياً على طور الوجهة التي ستأخذها مرفقات الحماقة والعربدة السياسية بتوصيفها اللصوصي، وقد أبرزت نأياً غربياً بالنفس لا تخطئه العين، وإن كان غير مقصود ولا متعمد أوروبياً وأميركياً، لكن من الواضح أنها وضعت حداً فاصلاً بين زمنين ومرحلتين ليس بمقدور أحد تجاوزهما ولا القفز خلف ما أُرسي من حقائق إضافية كانت حتى اللحظة غير معمول بها، حيث أوجدت النقطة التي لا عودة عنها ولا مجال بعد اليوم للنقاش فيها وكانت تركيا هي البادئة.‏

لسنا بوارد المقارنة بين نبش القبور التي استعاضت فيها حكومة أردوغان عن تدمير الأضرحة لمنتجها الداعشي، بحيث تكتمل الصورة بين الوكيل والأصيل وتتكامل الأدوار، بل في سياق ما تحمله من مفاهيم تفرضها المواجهة بأبعادها السياسية والقانونية، ولا تخفي من أجنداتها البعد العسكري كعكاز غربي يتيح المزيد من الوقت لتوظيف الإرهاب ويطيل في عمر تنظيماته.‏

ما هو محسوم أن معركة الاصطفاف السياسي والعسكري وضعت معادلات تَشكُلها وسط هذا الركام من الفوضى والخراب، الذي تريد عبره أميركا أن تبقى متاريسها كما هي دون تعديل، لكن في حسابات الجبهات المفتوحة لم تعد القضايا وقفاً على ما أثارته هذه الحقبة من تبعات، بل جزمت بأن ملفات المنطقة المؤجلة منذ عهود الاستعمار قد فتحت، وأن الخرائط المرسومة بأطماع المستعمر الأوروبي ووريثه الأميركي قد طالتها أقلام التحبير الإجباري.‏

ما فات أردوغان وزمرته وكثير من المصفقين له من مرتزقته أن نبش القبور يستدعي بالضرورة نبشاً موازياً في التاريخ والجغرافيا، وجاءت عدوانيته الأخيرة لتفتح الدفاتر المركونة والصفحات المؤجلة ولتنفض الغبار عن الخرائط وقد حضرت الإرادة لتقويم ما اعوج من مساحات داخل تلك الخرائط، ولتصحيح ما أخطأ الغرب في هوامش أطماعه ومصالحه، والأهم للحديث عن خبايا السؤال السوري الملح، وقد آن أوانه وجاءت لحظة النطق به، والاسكندرون ليس سوى بدايته، حيث الخط الموازي له يمتد في الوجدان السوري حقاً تاريخياً وقانونياً، كما هو في الجغرافيا والخرائط.‏

بقلم: علي قاسم