العراق «الجديد» والمشروع القديم

ينزلق لسان الكثيرين من المسؤولين الغربيين حين يكون اللقاء مع بعض أدواتهم في المنطقة، فيظهر ما يبطنه، وأحياناً يعيد ما سبق أن سحبه من التداول في عودة إلى المربع الأول، وفي بعضها إلى ما قبله.
والمسألة لا تُختصر في زلة لسان عابرة، أو حديث عرضي يحاول بعض الغربيين أن يقدموا من خلاله مدخلاً للحديث عن الأجندات المستجدة وأمر العمليات العاجل، الذي يمليه في كثير من الأحيان تسارع حركة التطورات وانقلاباتها غير المتوقعة أو المحسوبة، بل في جوهرها تعكس رغبة في تقمص الأدوار التي تقتضيها متغيرات قواعد المعادلة الجديدة على المستوى الإقليمي.‏
العراق «الجديد» مصطلح بدأ يطفو على السطح، ويتم تداوله في الاجتماعات والغرف المغلقة على نطاق أوسع بكثير مما يظهر في الإعلام، حتى أن بعضاً ممن تعاطى معه في بداية إطلاقه انسحب من المشهد وحاول أن يتملص من مسؤولية تداوله، بعد أن شعر بأنه حمّال أوجه أكثر مما كان يعتقد أو مما هو ظاهر من استخداماته المرحلية.‏
فالعراق الذي خرج من محنة الاحتلال الأميركي وقد تجاوز مخططات التقسيم والكثير من السيناريوهات التي كانت معدة مسبقاً قبل الاحتلال أو لاحقاً أثناء الاحتلال، يعود على الطاولة من بوابات تلك المخططات ذاتها، بعد أن أظهرت النيات المباشرة التي فضحتها الكثير من زلات اللسان، وفي بعضها من خلال سرعة التصرف لتطويق دائرة الاحتمالات والدفع بالتطورات نحو السياق الذي يتقاطع إلى حدّ التطابق مع إحداثيات المخططات السابقة.‏
وما عجزت عنه أثناء الاحتلال، وما بدا مستحيلاً بالوجود العسكري المباشر أو عبر الوكلاء الإقليميين جاء عبر التنظيمات الإرهابية متاحاً وممكناً، بل كان غاية في حدّ ذاته، بحكم أنه يقدم تفسيراً فعلياً لما أقدمت عليه داعش والتسهيلات التي حصلت عليها من قوى وأطراف داخل العراق وخارجه، وفي المنطقة وخارجها أيضاً.‏
اللافت أن ما تحققه التنظيمات الإرهابية على الأرض ينسجم مع روح وجوهر المخطط القديم العائد إلى سنوات، وربما عقود خلت، والأهم أنه يتوافق مع ما حدث في المنطقة عبر السنوات الماضية في الكثير من الدول العربية، وتعثر أو فشل في بعضها، وتحديداً بعد العجز عن الوصول إليه في سورية، دفع بالبديل الجاهز إلى الصدارة مرفوعاً برايات داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى، التي طرحت مفاهيم إعادة توزيع الخرائط على أسس ومكونات وجود الإرهاب والتنظيمات التكفيرية الباحثة عن موضع قدم تصلح للمحاججة، وأحياناً لشرعنة الكيانات على أسس طائفية وعرقية وأثنية.‏
الصراع القائم يمتد في أوصال المنطقة أبعد من ظواهره الطافية والسطحية التي تحاول المتاجرة ببضاعة كاسدة، وإن كانت رائجة تحت عناوين تتلون تبعاً لمصدر إطلاقها، وتتبلور عوامله وأهدافه ونقاط المواجهة فيه على أسس وجودية ووظيفية كانت قائمة في بعض جزئياتها، وأضيفت إليها بعض الخلاصات الناتجة عن الاستطالات المرضية على امتداد السنوات الماضية، لتصبح مستعصية على الفهم دون الرجوع إلى أبعاد وعوامل وأسباب إدخال الأدوات التقليدية المحيّدة أو الموضوعة على الرف على خط الصراع، ودون الأخذ بالمهام التطويرية لبعض الوكلاء الإقليميين القدامى والأساسيين منهم أو الجدد والمستحدثين خصيصاً لهذه الغاية.‏
صراع تتخطى مساحاته الحدود التقليدية التي رسمتها اتفاقيات سايكس بيكو، وتصل إلى الحدود الطبيعية التي راجت في أغلب المراحل التاريخية، وهوية ذلك الصراع ليست تحت شعار واحد أو نقطة مجابهة محددة بقدر ما هو شامل لكل مكونات الوجود، بما في ذلك مصير شعوب المنطقة وحضورهم الجغرافي والتاريخي والحضاري.‏
العراق «الجديد» عنوان استُحدث لعودة النفخ في قربة مخطط قديم بائد ومستهلك، ومحاولة مستميتة ويائسة من أجل تحريك أطرافه المتيبسة، بعد أن عانى من الموت السريري المبطن والظاهر للعلن على خطين متوازيين، الأول بفشل أدواته، والثاني بعجز قادته، ويضيف اليوم خطاً ثالثاً هويته الظاهرة التنظيمات الإرهابية، وهويته المبطنة بعض الوكلاء التقليديين الذين استُدعوا إلى الخدمة على عجل بوجوه من عربدة وعدوان، وبعيون من ارتهان وعمالة للغرب ومشروعه.‏
بقلم: علي قاسم