في المحددات والحاضنة السياسية

لم يكن من العبث أن تكون المحددات المبدئية للنقاش حاضرة بقوة في منتدى موسكو، ما أضفى جدية، وأوجد مناخاً ظلل الحالة السياسية المتداولة، وفرض في نهاية المطاف ممرات كان لا بد من عبورها كي تستقيم الحالة، ولو من الناحية النظرية، بحكم أن التنفيذ والطرح والمقدرة على تحديد هوامش المرونة السياسية يبقى رهناً بترجمته على الأرض ومدى مصداقيته.‏

من هنا، لم تكن بعض التحليلات السابقة للقاء موسكو قادرة على الإحاطة الكاملة باحتمالات الشمولية التي انطوت عليها، لجهة التزامها بالمحددات الأساسية التي كانت غائبة في معظم اللقاءات الأخرى ، بل في بعضها لم تكن ملحوظة، وجاء غيابها متعمداً في جزء منها، وهذا ما أضاف عقبات وعراقيل ساهمت في تفخيخ تلك اللقاءات بشكل مسبق.‏

مع ذلك لا يمكن أخذها هنا أبعد من ذلك، ولا تحتمل التعويل أكثر لأن المسألة لا ترتبط حصرياً بالمحددات رغم ضرورتها وربما إلزامية حضورها، بل تتشعب تلك الارتباطات وتتجاوز العناوين لتصل إلى الكثير من التفاصيل بحيث تضبط المعايير وتحدد المسالك المطروحة دون أن تتعاطى معها من زاوية الاشتراط، بقدر ما تملي ضرورتها من بوابة الحاجة.‏

على المقلب الآخر كانت التساؤلات تطرح جانباً موازياً لها يتعلق بالحاضنة السياسية، لكن بصيغ مختلفة، وقد شهدت تفشياً وصل إلى جذر المواقف التي بنت المعارضات والمعارضين المواقف على أساسها، وتحديداً ما يتعلق بالخارجية منها التي تعددت واختلفت وتباينت، وفي مرحلة لاحقة تناقضت وتصارعت، نتيجة تصادم الأجندات الإقليمية المحركة لها، وهو ما برز أيضا في اللقاءات السابقة بعكس ما تظهره اليوم أروقة وكواليس وقاعات موسكو، حين تمكنت من الحدّ من تأثيرها بعاملين أساسيين.. الأول: عبر دعوتها الموجهة لشخصيات من المعارضة، وليس هيئات أو تنسيقيات وتكتلات والثاني: من خلال إجراء اللقاء داخل ابواب مغلقة.‏

ولم يكن السؤال عن الحاضنة السياسية إلزامياً في السابق كما هو ملح اليوم تحت وابل من استهداف المحددات، التي أعاد شرح جزء منها الوزير لافروف في أكثر من تصريح، خصوصاً عندما تحدد الحاضنة نوع الطروحات السياسية والجهة التي تمثلها والأجندات المزروعة بين مفرداتها، وهي التي قادت إلى نهايات مجهولة وأحياناً مظلمة وبدت تحمل بذور التفجير المحمولة على أجندات الآخرين.‏

ولعل ما كان يجري في الماضي شكل حالة صادمة، وأضفى حالة استثنائية بحكم ما أفرزه من استطالات وتورمات في المشهد السياسي أخذت الأمور إلى مواقع تحتمل التفسير المزدوج، وإلى اتجاهات حمالة أوجه، لكن بعد أن فرض الحراك الإقليمي والدولي إحداثياته، وحدد أولوياته بحسابات ومعادلات قلبت الكثير من المسلمات التي كانت سائدة في العرف الغربي ومن يجاريه، حيث اقتضت المعطيات أن تأخذ المقاربات سياقاً آخر مختلفاً، بعد جملة من الخلاصات التي تهربت من الاعتراف بالفشل إلى العمل بمقتضاه، بمعنى أن الغرب وأدواته في المنطقة لم يعترفوا بالعجز والفشل فقدموا مداورة تعكسه دون أن تنطق به.‏

الأمر انسحب على ما عداه، وبدت صيغ المحددات أكثر قبولاً وتداولاً، حتى إن ما تسرب في أول يومين من اجتماعات المعارضة كان يأخذ بها في بعض المفردات وإن لم يتعمده، أو يظهره إلى العلن، وهذا ما أعطى انطباعاً بامكانية المداورة في الكثير المصطلحات لتتوافق مع المحددات وتبتعد بالضرورة عن الحاضنات السياسية الخارجية بكل تبعاتها، وإن بقيت بعض الهوامش الجانبية.‏

فالمحسوم أن المحددات حضرت إلى موسكو معتمدة على مقاربة الأمر الواقع، واستندت إلى تراكم من المدارك بأن الثوابت ليست وجهة نظر في النقاش، وأن إعادة تصويب الاتجاهات باتت تقتضي التخلص من تبعات تجيير الخارج ليكون المطية المعتمدة، بعد أن غابت أوراقه وقصاصاته العاجلة من داخل قاعات موسكو.‏

ليس من الصعب الجزم بأن الحاضنة الوطنية وحدها التي تمتلك المحددات القابلة للاستمرارية وأي جنوح خارجها أو من دونها يقود إلى مسالك وعرة، وهذا قد يفسر جزءاً من الحسابات التي اقتضت من البعض استبدال جلدته السياسية في وقت ترجح فيه كفة الثوابت الوطنية، فيما مقاربة من تبقى من المعارضين تختل عمودياً وأفقياً، مااقتضى إعادة تموضع واصطفاف سياسي مغاير وربما مقلوب.‏

بقلم: علي قاسم