انقلاب المشهد

ما بين الانتخابات البرلمانية الليبية والانتخابات الرئاسية السورية فرق وبون كبيران. ليس فقط من حيث التدفق البشري على مراكز الاقتراع, وإنما أيضاً من حيث انصهار الشعب والقيادة والمجتمع المدني في بوتقة المشروع الوطني القادر على الارتقاء بالإنسان والكيان السياسي.
قتل ما يسمى «الربيع العربي» الأمل لدى الشعوب المنتفضة ضد الفساد والاستبداد, في التغيير وفي التطوير بعد أن سقطت المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية خلال رحلة إسقاط الأنظمة الحاكمة.
وعجزت كل مقاربات الإصلاح وقصرت التمويلات الأجنبية والمساعدات الدولية عن جسر هوة الانخرام الاقتصادي وعن ترميم الاهتراءات الاجتماعية والسياسية العاصفة بهذه العواصم.
في مصر كان الإقبال الشعبي على الانتخابات الرئاسية محتشماً جداً, وفي ليبيا قاطعت قطاعات كبيرة من الشعب الليبي الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وفي تونس يخيم شبح العزوف الانتخابي على كل الفاعلين السياسيين في البلاد عامة وعلى اللجنة الخاصة بالإشراف على الاستحقاقين الرئاسي والبرلماني المزمع إجراؤهما نهاية السنة الجارية.
في الطرف المقابل من المشهد الانتخابي, لا يزال الطوفان البشري الشامي أمام مراكز الانتخابات في البلدات والقرى السورية ماثلاً أمام مرأى المتابعين والمراقبين سواء منهم المؤيدون لسورية الدولة والدور أو المعارضون لها.
المفارقة في هذا المفصل, أنه خلال السنتين المنصرمتين كان المشهد منقلباً تماماً, حيث كانت الطوابير تقف مصطفة أمام المراكز الانتخابية خلال الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية في تونس ومصر وليبيا فيما كان الإقبال الشعبي السوري على الاستحقاقات المحلية البلدية والدستورية والبرلمانية خلال النصف الأول من سنة 2012 متوسطاً ولا يرقى إلى حجم الرهانات الموضوعة في كنهها.
انقلاب المشهد لم يسترع انتباه الكثيرين على الرغم من دلالاته السياسية والاستراتيجية الواضحة والدامغة والتي من بينها:
1- التغيير الإدراكي في العقل العربي الذي قادته دمشق لمتطلبات «الربيع العربي» حيث باتت قطاعات كبيرة من الشعوب تقدّم الدولة على التغيير – لا باعتبار أنهما متناقضان- و إنما لأن الدولة هي رافعة الإصلاح وقاطرة التغيير السلمي والسلس في حين إن سقوطها يعني في المحصلة إعداماً لمطالب الإصلاح وسقوطاً في وحل الفوضى ومستنقع أمراء الحرب.
2- تجيير المشروع الوطني الجامع لمصلحة منظومات سياسية ضيقة الأفق « في الحالتين التونسية والليبية» تقدم المصالح الأيديولوجية على الأهداف الوطنية بطريقة تتحول فيها الانتخابات إما إلى وسيلة لتجديد الثقة في أطراف سياسية فاشلة وإما إلى محطة تسويقية تعمل فيها المؤسسات الدعائية والإعلامية المتحالفة مع رأس المال السياسي على تشكيل الرأي العام عبر إدارة طريقة الاقتراع.
3- الاقتناع الشعبي بأن المصارحة والمسامحة والمصالحة تشكل اللبنة الأساس للبناء الوطني حيث تجسّم الانتخابات لتجسيد السياسي لكل هذه المبادئ وتمثل أيضاً الحاضنة والمحصنة لمقدمات العفو والتسامح, في حين إن إجراء انتخابات في ظل مشهد وطني يعمه الإقصاء والاجتثاث والاستبعاد- تحت عناوين تطهير البلاد من الأزلام – سيؤدي إلى ثلاث نتائج, الأولى إرادة شعبية مقضومة ومهضومة والثانية عملية سياسية مفتقرة للشرعية التمثيلية, والثالثة شرعية غير مكتملة للمنتخبين- بفتح الخاء- بأنصاف الإرادة الشعبية.
انقلاب المشهد الجماهيري والشعبي بين سورية من جهة وبلدان ما ينعت «بالربيع العربي» مشفوعاً بالتغير الإدراكي لمفاهيم الإصلاح والمواطنة ومتبوعاً بالاستدراك القيمي المجتمعي حيال مكانة الدولة في البناء الإصلاحي. ما كان ليقع لولا بقاء الدولة السورية ولولا صمود المؤسسات ولولا انغراس الوعي لدى أغلبية السوريين.
انقلاب الصورة ستتداعى معه انقلابات في المواقف الدولية وانقلابات في الاصطفافات الإقليمية والعالمية وانقلابات في المواقع وفي موزاين القوى… وذاك تجسيد لعبارة ذكرناها سابقاً ونعيدها حالياً: إن من حاربها حار بها..

بقلم: أمين بن مسعود