جبهة الجنوب.. في الأهمية والحصاد الأولي

بعد حرب العام 1973 وما اعقبها من خروج مصر من ميدان الصراع مع اسرائيل المغتصبة لفلسطين اعتبرت اسرائيل ان وجودها في المنطقة بات نهائيا وبامكانها الانتقال من مرحلة القتال لتثبيت الوجود الى مرحلة العمل لتوسيع الفضاء الاستراتيجي للدولة في المنطقة التي استبدلت تسميتها من عالم عربي الى منطقة الشرق الاوسط الكبير أو الجديد الذي تستأثر فيه بالريادة تحت اشراف وقيادة اميركية.‏

لكن الحلم الاسرائيلي ذاك ورغم كل ما احاط به من عوامل النجاح واجه كابوسا لم يكن بالحسبان حيث انفجرت ثورة اسلامية في ايران اسقطت حكم الشاه «شرطي الخليج» واقامت حكومة استقلالية رفعت شعار الحرية والتحرير لفلسطين من الغدة السرطانية اسرائيل.‏

وفي بحثه عن التوازن الاستراتيجي مع العدو الاسرائيلي، التوازن الذي اختل بخروج مصر من الحلبة، وجد الرئيس حافظ الأسد وبنظرته الرؤيوية البعيدة ان ايران الاسلامية قد تكون بديلا استراتيجيا لاستعادة التوازن فلاقى سريعا يدها الممدودة للعالم العربي من اجل فلسطين، ومعها سارع الى دعم المقاومة في لبنان التي تشكلت في اعقاب خروج منظمــــة التحــــرير الفلســــطينية منــــــه‏

اثر احتلال اسرائيل لنصف لبنان حتى بيروت، وقد وجد الرئيس الأسد في ايران اقليمياً وفي المقاومة ميدانياً والجيش العربي السوري محلياً منظومة قوة ملائمة لمنع تصفية القضية الفلسطينية والحؤول دون ارغام سورية على توقيع اتفاقيات الاستسلام للعدوكما فعل غيرها.‏

عملت المقاومة في لبنان وبدعم من ايران وسورية سنوات طوال في ظل اختلال موازين القوى دوليا واهتزاز المواقع اقليميا ومحدودية القدرات ابتداء ، لكنها تنامت وراكمت الخبرات والامكانات حتى استطاعت ان تحرر الجنوب اللبناني – الا مزارع شبعا – وان تسجل في العام 2000 انتصارا عسكريا ميدانيا كاملا على اسرائيل وترسي قاعدة جديدة في الصراع معها مفادها « ان جيش اسرائيل يقهر، وان الارض بالقوة تحرر».‏

وحاولت اسرائيل في العام 2006 ان تطيح بهذه القاعدة التي لا ترتضيها لما فيها من خطر على وجودها القائم على القوة دون الحق، لكنها فشلت في الميدان، فعوضت عليها الامم المتحدة بالقرار 1701 الذي جاء الى لبنان بـ 15 ألف جندي دولي ينتشرون في البر والبحر لحماية اسرائيل من المقاومة، ومع هذا القرار اطمأنت اسرائيل أو استعادت الطمأنينة التي كانت تصورتها يوم توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وخروج المقاتلين الفلسطنيين من لبنان في العام 1982.‏

بنت اسرائيل طمأنينتها في طبعتها الجديدة في العام 2006 على مشهد رأت فيه نفسها محصنة باتفاقيتي سلام (مع مصر والاردن) تفرضان المناطق المعزولة أو المؤجرة لاسرائيل، واتفاقية فض الاشتباك مع سورية وقرار دولي بوقف الاعمال العدائية وابعاد المقاومة عنها مسافة 25كلم مع انشاء منطقة عازلة ايضا بحراسة الامم المتحدة.‏

لكن اسرائيل وبعد ايام قليلة من اسدال الستار على «حرب لبنان الثانية» (وفقا لتسميتها)، تبينت ان حلمها غير قائم على قاعدة صلبة، لان المقاومة في لبنان التي ابتعدت ظاهريا عن الحدود، تابعت وبدعم واحتضان من المحور المشكل منها ومن ايران وسورية، تابعت تعزيز قدراتها وامكاناتها الى ان توصلت الى امتلاك القوة النارية الصاروخية التي تغطي بشظاياها ولهيبها كامل فلسطين المحتلة، وهو خطر لمست اسرائيل بعض اثاره وآلامه جزئيا في العام 2006 ثم تأكدت منه في العام 2014 على يد المقاومين الفلسطنيين في غزة المحتضنين من محور المقاومة والمسلحين ايضا ببعض ما لدى حزب الله من صواريخ على قلة الكمية ومحدودية الفاعلية ورغم ذلك كانت لسعاتها تؤلم اسرائيل بعمق وتطرح عليها السؤال: «كيف سيكون مفعول نار حزب الله اذن»؟‏

رات اسرائيل ان الخروج من دائرة القلق والخوف على المصير بعد كل الذي حصل له معبر اجباري واحد، هو إسقاط سورية والإجهاز على جيشها واقامة حكومة عملاء لها في دمشق عندها تعزل حزب الله في لبنان وتبعد ايران عن فلسطين، ولاجل هذا كانت القرار الصهيواميركي بالعدوان على سورية وشن تلك الحرب الكونية القذرة ضدها، ولكن رغم كل الجهود والطاقات التي سخرت في هذا العدوان صمدت سورية طيلة اربع سنوات واجهضت الخطة تلوالخطة بدءا بخطة الاخوان بقيادة تركية قطرية، الى خطة الوهابية بقيادة سعودية، الى خطة داعش الاخيرة.‏

لقد ارعب الصمود السوري المحتضن بمحور المقاومة اسرائيل، لكنها رفضت الاعتراف بالهزيمة – هزيمة مشروع اسقاط سورية– فاختارت ان تتقي تداعيات الهزيمة بالمسارعة الى اقامة منطقة عازلة في الجولان توكل امرها الى تنظيمات ارهابية تعمل بامرتها، فاذا اكتمل ذلك تحاول ان تدفع لاستئناف العدوان على سورية وفقا لخطة رابعة تكون الاردن العمود الفقري فيها.‏

فجأة وبهذا التصور الاسرائيلي انقلبت الجبهة الجنوبية في سورية الى المكان الذي يحدد فيه مصير العدوان كله، وتحولت الى الميدان الذي يحدد العناصر الرئيسية للمشهد برمته، فنجاح الخطة هذه يعني اهدار كل مكتسبات الصمود السوري طيلة 4 سنوات، اما فشلها فانه يعني اقفال الباب امام المخطط المعتدي ومنعه من اجتراج خطط عدوان جديدة بعد ان يكون قد اخرج كل ما في جعبته ما يعني الاضطرار الى الذهاب الى الحل السياسي الذي يكرس انتصار سورية ومحور المقاومة الذي تنتمي اليه.‏

نظرا لهذه الاهمية والخطورة معا القى محور المقاومة بالثقل المناسب في الجبهة الجنوبية، وأبدع في وضع الخطط التي تقود الى الانتصار الاكيد، وجهز لكل تصرف اسرائيلي او سواه، ما يناسبه من الرد في التوقيت الملائم لإحداث اعلى قدر من التأثير وبهذا الفهم والتصور انطلقت معركة الجنوب فحققت في ايامها الاولى ما فاق التوقع من المفاعيل وانتجت حتى الان ما يلي:‏

1) ثبات معادلة توازن الردع مع اسرائيل ليس على صعيد الجبهة مع لبنان فحسب بل على كامل الجبهة الشمالية بالتسمية الاسرائيلية شاملا لبنان وسورية، ثم التوسع في الاعمال الى حد تخطي قيود قواعد الاشتباك القائمة بما اظهر اسرائيل عاجزة مغلولة اليدين عن التدخل المباشر لنجدة عملائها من ارهابيي جبهة النصرة وسواهم من الارهابيين الذين تسميهم اميركا معارضة معتدلة، فاسرائيل التي كانت تتدخل لنصرتهم قريبا من دمشق احجمت عن ذلك وهم على مسافة 8 كلم من مراكز احتلالها للجولان رغم انها تشاهدهم يتساقطون ويلوذون بالفرار امام الجيش العربي السوري والقوات الحليفة، في مشهد اسقط الحلم بالحزام الامني الاسرائيلي.‏

2) قطع الطريق على الاردن لتنفيذ الخطة الاميركية الرابعة ضد سورية، والزامه بالتراجع عن المعركة البرية بزج قواه الذاتية وفيلق الارهاب السوري الاول الذي نظمه مؤخرا للتوجه الى دمشق لتغيير المعادلات فيها حسب زعمه، فالاردن علم الان انه لا يستطيع فعل ذلك ان لم يكن مطمئنا الى واقع حوران والحال على حدود الجولان وكلها باتت في غير ما يشتهي .‏

3) التأكيد على انطلاق المقاومة الشعبية السورية في حوران لتحرير الجولان وترابطها بالمقاومة اللبنانية، وهوما كانت تحاذر اسرائيل منه وبات الان يشكل الحدث الاستراتيجي الاهم بالنسبة لكل للمشهد، حيث انه يراكم الخسائر الاسرائيلية تباعا، اذ بعد خسارة اسرائيل للقرار الطليق بالحرب، وبعد ابتعاد شبح الوطن البديل من جراء احجام الاردن عن خوض حرب برية ضد سورية تنهك قواها وتفرغ الداخل الاردني بشكل يمكن من الاطاحة بالحكومة القائمة لتحل معها حكومة تجعل من الاردن وطنا فلسطينيا بديلا يريح اسرائيل، بعد كل ذلك يأتي انقلاب المشهد وتعاد الى الواجهة جبهة تعمل عليها المقاومة فتنكسر حلقة الامان الاسرائيلية التي ذكرناها وتعود اسرائيل الى المربع الاول من حيث القلق، ولكن هذه المرة خطر تشكله منظومة متماسكة تملك كل القدرات والامكانات والعزيمة لتقول لاسرائيل ان الغدة السرطانية التي تشكليها بوجودك اقترب وقت اقتلاعها.‏

شاء اصحاب المشروع الصهيواميركي تدمير سورية واسقاطها لانتاج ظروف البقاء والامان النهائي لاسرائيل، وبعد اربع سنوات من المواجهة والكر والفر يجد اصحاب المشروع انفسهم امام مشهد يعاكس اهدافهم ، مشهد لم يعد الامور الى ما كانت عليه قبل العدوان بالنسبة لاسرائيل، بل تطور ليضع اسرائيل في دائرة الخطر الذي طالما عملت لتفاديه، اما الاردن الذي ما ترك شيئا يمكنه القيام به ضد سورية الا وقام به اختيارا او إرغاما، فان انجازات محور المقاومة على الجبهة الجنوبية ارتدت عليه ايجابا لمصلحته فانتجت بيئة تجعله يتفلت من الضغوط الخارجية، ويمتنع عن العمل ضد سورية اذا كان راغبا حقيقة في ذلك، فيتفلت من خطر الوطن البديل، جاء ذلك نتيجة لتضحيات الجيش العربي السوري والقوات الحليفة التي تقاتل الارهاب ورعاته فيستفيد من قتالها حتى اولئك الذين ساهموا في العدوان.‏

انه الحصاد الاولي لجبهة الجنوب التي باتت جبهة الحسم التي يؤسس فيها لمشهد جديد يكون فيه محور المقاومة صاحب الكلمة الفصل…اما المعتدون فيتوزعون المقاعد بين القلق والتخبط والاضطراب وانعدام الرؤية.‏

بقلم: أمين حطيط