فيينا .. ويستمر اللغو-صحيفة الثورة

لم يستطع بيان فيينا أن يحول دون بقاء بعض اللغو الإقليمي والغربي سائداً ومستشرياً في قراءات الكثيرين، رغم ما فيه من حسم لكثير من التقوُّلات، وتجاوز لما بات بعرف المنطق والعقل من حقبة سابقة لا طائل من العودة إلى الثرثرة على هوامشه، كما لا فائدة ولا جدوى من النفخ في القربة المثقوبة ذاتها، ولو تغيرت النغمة أو تبدَّل السياق.‏

الأوضح.. أنه لم يتمكن بعد من لجم تخيلات وتمنيات وأضغاث أحلام تزيد من تورُّمها بعض الخطوات الأميركية التصعيدية الموازية التي تشي بتعمد إعلانها أو تسريبها مع النقاش الدولي في فيينا، حتى لو جزم كيري بأنها مصادفة محضة..!! حيث الرسائل الأميركية القادمة من واشنطن ومن نقاشات الكونغرس الأميركي وجلسات استماعه الطويلة، تقود في اتجاه معاكس، يكاد ينسف كل ما سبقه، ويبخِّر الكثير مما علق من آمال بلقاء فيينا وما قد يليه!!‏

ربما .. من المبكر الجزم بحدود ومساحة وحجم الخطوات الحاسمة التي قطعها لقاء فيينا باتجاه تضييق نقاط الاختلاف التي اعترف بها في بيانه الختامي، لكن من المتاح والممكن القول إنه استطاع أن يثبت بعض النقاط التي كانت تائهة أو ضائعة في حروف الخطاب الدولي، ومقارباته المختلفة من شرقها إلى غربها، وإن ظلت عالقة حتى اللحظة في ثنايا التفسير، وما يفرضه من نيَّات مبيَّتة أو رغبات وتمنيات في التأويل والتجيير وربما المماحكة اللاحقة في تفاصيل الكلمات ومفردات الجمل.‏

فهزيمة داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية التي تضمنها البيان رغم تلون ما تلاه من مواقف وتصريحات، تشكل مدخلاً صحيحاً لأي مقاربة، وإن كانت غير كافية، لكنها تصلح لتكون تمهيداً سياسياً يفتح الباب أمام النقاش في المراحل اللاحقة، رغم أنه يحلو للبعض استباق الأحداث والتطورات والبناء على فرضيات تحاكي بعض تمنياته الضائعة، ولو حاول تبريرها من خلال التدحرُّج في سياقات العمل السياسي والعسكري لمواجهة الإرهاب.‏

في المبدأ… لا يمكن تجاهل ما ورد من تباينات داخل البيان، وحتى في المؤتمر الصحفي اللاحق للافروف وكيري ودي ميستورا، حيث إعادة تعويم الدور الأممي بما فيه من إيجابيات ينعش من جديد الكثير مما يدخل في باب التفسيرات اللاحقة التي تتخمها التفاصيل والشياطين الكامنة فيها، وإن جاءت بصيغ تعيد للمرجعية الدولية شيئاً من ماء الوجه الذي هدرته تصرفات وممارسات الكثير من المسؤولين الأمميين.‏

فإذا كانت شواهد بزوغ النظام العالمي الجديد، وما يستتبعه من نظام إقليمي تابع أو عاكس لحالة المشهد الدولي، قد برزت كسياق يترجم تطورات اللحظة الأخيرة، من دون أن تحسم النظرة الدولية إلى المسألة، ومن غير أن تسلم الأطراف الأميركية والغربية وتوابعها الإقليمية بمستلزماته حتى اللحظة، فإن لقاء فيينا يفترض إفساحاً في المجال لحجر الأساس في رسم المحدَّدات العملية للنظام العالمي الذي يحضر فيه الروسي متحرراً من عوائق الحصار السياسي لحليفه الإيراني وتطويق مفاعيل وجوده في القاعات الدولية، التي كانت سائدة في الماضي.‏

وهذا يجزم بأن المقاربة الفعلية لمكافحة الإرهاب لم تكن سوى انعكاس مبدئي لهذا الحضور الروسي الواضح، حين فرض هزيمة التنظيمات الإرهابية كبند في نقاط الاتفاق، وإن لم يتم إظهارها كأولوية تسبق ما عداها، باعتبارها مدخلاً لا يمكن العبور إلا من خلاله نحو أيِّ نقاش أو حوار أو دور، حيث المفاعيل الأولية لهذه المقاربة لن تنحصر في ترتيب الجهد الدولي وعزل تدريجيٍّ لكوابح مفتعلة، كانت تحول دون انطلاق العمل الجاد لمكافحة الإرهاب، بل في البدء بمرحلة رفع الغطاء السياسي عن تنظيمات إرهابية، كانت بعض الدول تدافع عنها وتحميها ولا تزال.‏

على المقلب الآخر لا يزال المشهد الدولي يضج بمشاهد التسويف والنفاق السائدة في الخطاب الغربي، حين برزت إلى العلن مسألة التحرك الأميركي نحو الدخول بريّاً، وإن كان تحت شعار المستشارين، بما يعنيه في العرف السياسي والعسكري على حد سواء مشاغبة محسوبة ومعروفة تستهدف الدور الروسي، بحيث تكون رسالة شديدة التهور في الاتجاه المعاكس، وهي تقيس نتائجها المحسومة على أساس المناكفة مع الروسي أكثر مما تعني فعالية، يمكن لها أن تؤثر في المشهد الميداني، وما يليه من ملحقات سياسية في المرحلة المقبلة، تنفي بالمطلق فرضية المصادفة.‏

لقاء فيينا.. بمشاركيه ومتابعيه وحتى معانديه في شدهم العكسي… حاول أن يرسم خطًّا متعرجاً بين هوامش وأروقة متناقضة ومتعارضة، وأن يفتح خطوط تماسّ مباشرة بين مقاربات متصارعة حتى على المصطلح، بعد أن تعاركت على محاكاة الهدف والغاية والأجندة، لكنه يصطدم حتى اللحظة بغياب واضح لمسلمات ونقاشات طافية على سطح المشهد، وبافتقاد لإجابات مؤجلة عن أسئلة صعبة ومعقدة عن الإرهاب ومموليه وداعميه ومريديه ومتبنيه، والأهم عمن بقي يصر على التعويل عليه والرهان على ما سيجنيه..!!‏

بقلم: علي قاسم