إما مع سورية.. أو مع “إسرائيل”

تفتح معركة الجنوب السوري، بتعدد أطرافها، الباب أمام حقيقة بسيطة ومعبرة للبروز مجدداً، ومفادها أن للتاريخ سطوته، دروساً وعبراً، وحضوراً سلبياً ثقيلاً هذه الأيام، وللجغرافيا دكتاتوريتها الحاكمة، وهي حقيقة قد لا تعني شيئاً للإنسان العادي، وبالتالي فإن جهلها أو إنكارها، لا يرتب نتائج تتعدى شخصه، لكن للجهل أو الإنكار من قبل السياسي أو العامل بالشأن العام، آثاراً سلبية وخيمة على الناس الذين يقودهم أو يتحكم برأيهم وتوجهاتهم.

بيد أن المسألة، للحق، لا تتوقف على الجانب النظري، بل تتجاوزه إلى العملي أيضاً، بمعنى أن منظمات سياسية أو أفراداً وطنيين أو نظاماً سياسياً ما، قد لا يغفلون هذه الحقيقة، لكنهم لا يعملون بموجباتها، إما لاعتبارات عقائدية أو مصلحية عند المنظمات، أو لجبن إنساني عند الأفراد، أو لعدم قدرة النظام السياسي على الخروج من إطار الدور الوظيفي المرسوم له، والذي كان علة نشأته وأساس وجوده.

وإذا كان للتاريخ حديث آخر، فإن دكتاتورية الجغرافيا في “معركة الجنوب” تحديداً، وضعت الجميع أمام ساعة الحقيقة- الامتحان، ونقلت الصورة، التي حاول البعض إخفاءها على مدار السنوات السابقة من عمر الأزمة، من تحت الطاولة إلى فوقها، وهذا يعني، ببساطة ووضوح، أن الجميع، أفراداً ودولاً ومنظمات، أصبح أمام خيار واضح وجلي، إما مع سورية وما تعني، أو مع “إسرائيل” وما تعني، ولا ثالث بينهما.

وبتحديد أكثر فإن تشدّق البعض بتأييد “المعارضة المسلحة المعتدلة” لم يعد يعني شيئاً مع انكشاف الدور “الإسرائيلي” الحيوي في الدعم والمساندة، كما أن الحديث اليومي عن أولوية الحل السياسي لا تعني شيئاً أمام العمل، اليومي أيضاً، على منعه، والبيانات الإعلامية بعدم التدخل، كما يقول الأردن مثلاً، لا تستقيم مع مواصلة الاحتضان والتدريب وتسهيل مرور السلاح والمسلحين عبر الحدود بصورة يومية، وبالتالي فإن ما يحدث عملياً لا يمكن فهمه، بعد اليوم، سوى في سياق الدور الوظيفي، سواء بالنسبة للمجموعات المسلحة المتخادمة مع “إسرائيل” في قول، والخادمة لها في قول آخر، وهو الأصح، أو للأردن الذي أُنشئ أصلاً تحضيراً لمثل هذه الأدوار، مثل تقديمه مشروع قرار خليجي لمجلس الأمن يحوّل اليمن إلى ليبيا أخرى، ودوره القمعي في البحرين.

وفي هذا الإطار لم يكن اغتيال “الكساسبة”، مع الإدانة الشديدة، سوى خطوة ضرورية في سياق هندسة الدور الجديد، واستثمار في حقيقة تداخل عاملي دكتاتورية الجغرافيا وسابقة الدور الوظيفي، حتى لو أدى الأمر إلى توريط الأردن عبر نقل الفوضى، التي يشارك في صنعها من حيث يدري أو لا يدري، إلى داخله، وإذا كان “حكام الأردن” لا يملكون التراجع، نظراً لحاكمية الدور الوظيفي، فإن سؤال ما العمل، العمل الفعلي وليس البيانات الإعلامية، موجه للأردنيين الوطنيين، باعتباره سؤال الحاضر والمستقبل، سياسياً ووطنياً وتاريخياً، بين سورية و”إسرائيل”.

واستطراداً، فإن ذات فكرة التوريط بهدف التدمير، هي التي تقف خلف حادثة إعدام المصريين في ليبيا، دفعاً للجيش المصري في مجاهل غير محسوبة، حيث لا يبقى جيش عربي معافى، ما يعني إشغال الساحات بالفوضى، التي يمكن “لكونداليزا رايس” مراقبتها بسرور وهي تحقق لها “شرقها الأوسط” الجديد، وبالطبع هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن يصمت الأردن أو مصر على الإرهاب، بل يعني معرفة العدو أولاً، وهو الفكر الوهابي والمال النفطي والتخطيط الأمريكي والدور التابع الفرنسي والتركي، وغير ذلك سيكون رمية في الفراغ ووقوعاً في الفخ المرسوم.

هي إذاً دكتاتورية الجغرافيا، وفيما كانت سورية تطمح إلى تطويعها واحة أمن وسلام وتعاون عبر نظرية البحار الأربعة، حوّلها البعض، بارتهانه الأبدي، إلى ملعب دموي مجنون، و”معركة الجنوب” اليوم هي مفصل في هذا السياق، فإما شرق لأبنائه، وإما “طُعمة لكلّ آكل”، بحسب عمنا الكبير ابن خلدون، ولا خيار آخر سواهما.

بقلم: أحمد حسن