على دروب الاستقلال-صحيفة الثورة

تعود الدروب الأولى للمشهد السوري المُخضّب بالنضال الوطني إلى الواجهة، في تحديات تبدو أكثر حضوراً وسط حالة من التعمّد في تجاهل القرائن والأدلة على التباين الحاد والمتعارض بين موجبات الدولة الوطنية وحتمية إنجاز الاستقلال، وبين التموضع الحاد لسلسلة من التعارضات في سياق المحاولات الحثيثة لفرض وقائع بديلة أو معطيات جديدة.‏

على هذه القاعدة تمثّل التحديات جزءاً من قراءة متشعّبة تخللتها في الحدّ الأدنى حالة من اللاوضوح في بعض جزئياتها، وإن استُخدمت في بعض المراحل للتبرير والتسويغ، وجاءت لتعيد التموضع داخل المشهد ذاته من زاوية المواربة في النظرة إلى تلك التحديات، دون أن تخفي نزوعها لتجاهل الدروس التي سطّرتها مرحلة ما قبل الاستقلال الوطني وما تلاها.‏

وإذا كان من البديهيات التي لا تحتاج ولا تحتمل حتى النقاش أن السوريين الذين أنجزوا الاستقلال الوطني في مرحلة لا تقل صعوبة ولا خطورة عن الوضع الحالي، قد وضعوا جملة من ثوابت الفعل السياسي كسياق لا يصح تجاوزه، ولا يمكن الافتراق بعيداً عنه، وهو في كل الأحوال لا يزال ساري المفعول، ولا يمكن إبطاله تحت أي مسمّى ولا ذريعة أو حجّة من أي نوع كان.‏

وهذا ما يتجسّد في عوامل الصمود السوري، رغم استيقاظ الأطماع الاستعمارية، الذي يأخذ اتجاهات مختلفة ومتباينة ويحمل عناوين لم تكن واردة في ذلك الحين، حيث مثّل رفض تلك الأطماع في الوجدان الجمعي للسوريين مُسلّمة غير قابلة للنقاش، وما يتم تظهيره من مفارقات أو متناقضات تدخل في باب الدجل السياسي، وربما في سياق النوافذ الإضافية المفتوحة على مصراعيها أمام تجاذبات الوعود البرّاقة والتكاذب المستمر والمتواصل.‏

في صِيغ البحث المعمول بها عن مشروع الاستقلال الوطني بصيغته الراهنة المُحدثة أو وفق عصرَنة تحاول حال الاستلاب الغربي وروّادها من موضة المعارضين «المودرن» أن تستبيح بعض الفرضيات السابقة من زاوية التقليد أو العدوى في إنتاج دويلات أو دول متشابهة في الصيغ السياسية، ويمكن حصرها في قوالب جاهزة تصلح للمحاججة السياسية في كل زمان ومكان، وتعتبرها ممراً إجبارياً لكل من يريد المسير في مركب النهج الغربي، حتى ينال الرضا ويصبح في التصنيف الأميركي والغربي معتدلاً أو يحاكي العصر، ولدينا نماذج من تلك المحاكاة في المشيخات الخليجية وعصرَنتها التي تحاكي عصور ما قبل التاريخ سياسياً.‏

والخطير في المسألة أن الكثير من الجوانب المُغفَلة في مسائل التاريخ ومجريات النضال الوطني، يُراد لها أن تبقى كذلك، وهناك من لا يقبل الاستشهاد بها، ولو من باب المقارنة اللفظية، دون أن يتردد في نسف القاعدة من أساسها حين يعتبر أن الحضور الغربي الذي جاء مستعمِراً بلبوس إعادة تأهيل سياسي وفق نص صك الانتداب، لا يتقاطع في شيء مع حضوره اليوم، وأن الحديث عن قدومه على عكّاز الديمقراطية والعصرَنة الغائبة، لا يحمل معطيات كافية للدلالة على التشابه.‏

الأخطر أن ينتشي البعض من سياسة انحراف المعايير تلك ليغمز من القناة ذاتها، وأن يعيد توصيف الوقائع وفق مسوّغات تمنياته، بما في ذلك الحرب الضروس التي تُشن على المنطقة وهويتها وقرارها وصولاً إلى وجودها والخرائط التي لم تعد قادرة أن تستجيب لمتطلبات الأطماع الغربية، حيث الفارق هنا يُراد له أن يتلاشى تحت ذريعة داء العصرَنة الذي يريد أن ينتج دولاً لا طعم لها ولا قرار ولا شكل، إلا بما يتوافق مع تلك الأطماع.‏

السوريون الذين خاضوا على مدى أربع سنوات ونيّف صراعاً وجودياً، وقد خَبروا جبهاته المفتوحة منذ لحظة نيلهم الاستقلال الوطني، يجزمون اليوم بأوجه الشبه القائمة وفي الوقت ذاته يدركون نقاط الاختلاف والتباين، سواء كان في الشكل أم المضمون، لا تغيب عن ذاكرتهم منعطفات الخطر التي واجهت رجالات الاستقلال الوطني في ذلك الحين والمفازات الصعبة التي اجتازوها حينذاك، والرفض الذي دفعوا ثمنه من حياتهم ومن دمائهم على مدى أكثر من عقدين ونصف من الزمن.‏

السوريون أولئك وهؤلاء يتشاركون العوامل ذاتها مع إضافات ملموسة على واقع ساهموا بصُنعه، وأسّسوا له من جهدهم ووقتهم وتعبهم على مدى عقود خَلَت، ليسوا بوارد المقارنة، ولا المجادلة في مسلّمات تجاوزها الزمن، وأن خطواتهم في المواجهة المفتوحة مع الإرهاب ورعاته إقليمياً ودولياً ستتواصل، ولديهم ما يكفي من عوامل ثقة لحسم تلك المواجهة، وأن ما بذلوه من تضحيات ليست موضع نقاش، ويمتلكون الاستعداد والإرادة لمضاعفتها كي يبقى الاستقلال الوطني منجزاً قائماً.‏

الأكثر من هذا وذاك أن دروب الاستقلال التي تتقاطر إليها ذاكرتهم يتقاطع عندها يقينهم بأن مهمة إنجاز الجلاء الأكبر قد اقتربت أكثر من أي وقت مضى، وأن ما كان غائباً أو مؤجلاً قد حان حينه، ودقّت ساعته والأيام قادمة..!!‏

بقلم: علي قاسم

انظر ايضاً

عبث حافة الهاوية

 لم يكد يُعلن عن الاتفاق الأميركي التركي حتى ظهرت التباينات والتفسيرات والتفسيرات المضادة، التي شهدت …